كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ولعل الأولى اعتبار كونه للتأكيد، لا يقال: إنه عليه السلام لم يتكلم بالعربية وما ذكر من مباحثها لأنا نقول: ما المانع من أن يكون في غير اللغة العربية ما يؤدي مؤداها بل حكاية القول عنه عليه السلام بهذه الألفاظ يقتضي أنه تكلم في لغته بما يؤدي ذلك ولا بد، وجمع الضمير إن صح أنه لم يكن معه عليه السلام غير امرأته للتعظيم وهو الوجه في تسمية الله تعالى شأنه امرأة موسى عليه السلام بالأهل مع أنه جماعة الأتباع {أَوْ ءاتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ} أي بشعلة نار مقبوسة أي مأخوذة من أصلها فقبس صفة شهاب أو بدل منه، وهذه قراءة الكوفيين ويعقوب، وقرأ باقي السبعة والحسن {بِشِهَابٍ قَبَسٍ} بازضافة واختارها أبو الحسن وهي إضافة بيانية لما بينهما من العموم والخصوص كما في ثوب خز فإن الشهاب يكون قبسًا وغير قبس، والعدتان على سبيل الظن ولذلك عبر عنهما بصيغة الترجي في سورة طه فلا تدافع بين ما وقع هنا وما وقع هناك، والترديد للدلالة على أنه عليه السلام إن لم يظفر بهما لم يعدم أحدهما بناءً على ظاهر الأمر وثقة بسنة الله عز وجل أنه لا يكاد يجمع حرمانين على عبده.
وقيل: يجوز أن يقال الترديد لأن احتياجه عليه السلام إلى أحدهما لا لهما لأنه كان في حال الترحال وقد ضل عن الطريق فمقصوده أن يجد أحدًا يهدي إلى الطريق فيستمر في سفره فإن لم يجده يقتبس نارًا ويوقدها ويدفع ضرر البرد في الإقامة.
وتعقب بأنه قد ورد في القصة أنه عليه السلام كان قد ولد له عند الطور ابن في ليلة شاتية وظلمة مثلجة وقد ضل الطريق وتفرقت ماشيته فرأى النار فقال لأهله ما قال وهو يدل على احتياجه لهما معًا لكنه تحرى عليه السلام الصدق فأتى بأو {لَّعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} أي رجاءً أو لأجل أن تستدفئوا بها، والصلاء بكسر الصاد والمد ويفتح بالقصر الدنو من النار لتسخين البدن وهو الدفؤ ويطلق على النار نفسها أو هو بالكسر الدفؤ وبالفتح النار.
{فَلَمَّا جَاءهَا} أي النار التي قال فيها {إِنّى ءانَسْتُ نَارًا} [النمل: 7] وقيل: الضمير للشجرة وهو كما ترى، وما ظنه داعيًا ليس بداع لما أشرنا إليه {نُودِىَ} أي موسى عليه السلام من جانب الطور {أَن بُورِكَ} معناه أي بورك على أن ان مفسرة لما في النداء من معنى القول دون حروفه.
وجوز أن تكون أن المخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن، ومنعه بعضهم لعدم الفصل بينها وبين الفعل بقد أو السين أو سوف أو حرف النفي وهو مما لابد منه إذا كانت مخففة لما في الحجة لأبي علي الفارسي أنها لما كانت لا يليها إلا اوسماء استقبحوا أن يليها الفعل من غير فاصل.
وأجيب بأن ما ذكر ليس على إطلاقه فقد صرحوا بعدم اشتراط الفصل في مواضع، منها ما يكون الفعل فيه دعاء فلعل من جوز كونها المخففة ههنا جعل {بُورِكَ} دعاء على أنه يجوز أن يدعي أن الفصل بإحدى المذكورات في غير ما استثنى أغلبي لقوله:
علموا أن يؤملون فجادوا ** قبل أن يسألوا بأعظم سؤل

وجوز أن تكون المصدرية الناصبة للأفعال و{بُورِكَ} حينئذٍ إما خبر أو إنشاء للدعاء.
وادعى الرضى أن بورك إذا جعل دعاء فإن مفسرة لا غير لأن المخففة لا يقع بعدها فعل إنشائي إجماعًا وكذا المصدرية وهو مخالف لما ذكره النحاة، ودعوى الإجماع ليست بصحيحة، والقول بأنه يفوت معنى الطلب بعد التأويل بالمصدر قد تقدم ما فيه، وفي الكشف يمنع عن جعلها مصدرية عدم سداد المعنى لأن {بُورِكَ} إذ ذاك ليس يصلح بشارة وقد قالوا: إن تصدير الخطاب بذلك بشارة لموسى عليه السلام بأنه قد قضي له أمر عظيم تنتشر منه في أرض الشأم كلها البركة وهذا بخلاف ما إذا كان {بُورِكَ} تفسيرًا للشأن اه وفيه نظر، وعلى الوجهين الكلام على حذف حرف الجر أي نودي بأن الخ، والجار والمجرور متعلق بما عنده وليس نائب الفاعل بل نائب الفاعل ضمير موسى عليه السلام، وقيل: هو نائب الفاعل ولا ضمير.
وقال بعضهم في الوجه الأول أيضًا إن الضمير القائم مقام الفاعل ليس لموسى عليه السلام بل هو لمصدر الفعل أي نودي هو أي النداء، وفسر النداء بما بعده، واوظهر في الضمير رجوعه لموسى وفي أن أنها مفسرة وفي {بُورِكَ} أنه خبر وهو من البركة وقد تقدم معناها، وقيل: هنا المعنى قدس وظهر وزيد خيرًا {مَن في النار وَمَنْ حَوْلَهَا} ذهب جماعة إلى أن في الكلام مضافًا مقدرًا في موضعين أي من في مكان النار ومن حول مكانها قالوا: ومكانها البقعة التي حصلت فيها وهي البقعة المباركة المذكورة في قوله تعالى: {نُودِىَ مِن شَاطِىء الوادى الايمن في البقعة المباركة} [القصص: 30] وتدل على ذلك قراءة أبي {أُمَّ القرى وَمَنْ حَوْلَهَا} واستظهر عموم من لكل {مِنْ} في ذلك الوادي وحواليه من أرض الشام الموسومة بالبركات لكونها مبعث الأنبياء عليهم السلام وكفاتهم أحياءًا وأمواتًا ولاسيما تلك البقعة التي كلم الله تعالى موسى عليه السلام فيها.
وقيل: من في النار موسى عليه السلام ومن حولها الملائكة الحاضرون عليهم السلام، وأيد بقراءة أبي فيما نقل أبو عمرو الداني وابن عباس ومجاهد وعكرمة {وَمَنْ حَوْلَهَا مِنَ الملائكة} وهي عند كثير تفسير لا قراءة لمخالفتها سواد المصحف المجمع عليه، وقيل: الأول الملائكة والثاني موسى عليهم السلام، واستغنى بعضهم عن تقدير المضاف بجعل الظرفية مجازًا عن القرب التام، وذهب إلى القول الثاني في المراد بالموصولين، وأيًا ما كان فالمراد بذلك بشارة موسى عليه السلام، والمراد بقوله تعالى على ما قيل: {وسبحان الله رَبّ العالمين} تعجيب له عليه السلام من ذلك وإيذان بأن ذلك مريده ومكونه رب العالمين تنبيهًا على أن الكائن من جلائل الأمور وعظائم الشئون، ومن أحكام تربيته تعالى للعالمين أو خبر له عليه السلام بتنزيهه سبحانه لئلا يتوهم من سماع كلامه تعالى التشبيه بما للبشر أو طلب منه عليه السلام لذلك.
وجوز أن يكون تعجيبًا صادرًا منه عليه السلام بتقدير القول أي وقال سبحان الله الخ، وقال السدي: هو من كلام موسى عليه السلام قاله لما سمع النداء من الشجرة تنزيهًا لله تعالى عن سمات المحدثين، وكأنه على تقدير القول أيضًا، وجعل المقدر عطفًا على {نُودِىَ}.
قال ابن شجرة: هو من كلام الله تعالى ومعناه وبورك من سبح الله تعالى رب العالمين وهذا بعيد من دلالة اللفظ جدًا، وقيل: هو خطاب لنبينا صلى الله عليه وسلم مراد به التنزيه وجعل معترضًا بين ما تقدم وقوله تعالى: {يا موسى إِنَّهُ أَنَا الله العزيز الحكيم} فإنه متصل معنى بذلك والضمير للشأن، وقوله سبحانه: {أَنَا الله} مبتدأ وخبر و{العزيز الحكيم} نعتان للاسم الجليل ممهدتان لما أريد إظهاره على يده من المعجزة أي أنا الله القوي القادر على ما لا تناله الأوهام من الأمور العظام التي من جملتها أمر العصا واليد الفاعل كل ما أفعله بحكمة بالغة وتدبير رصين، والجملة خبران مفسرة لضمير الشأن.
وجوز أن يكون الضمير راجعًا إلى ما دل عليه الكلام وهو المكلم المنادي و{أَنَاْ} خبر أي إن مكلمك المنادي لك أنا، والاسم الجليل عطف بيان لأنا، وتجوز البدلية عند من جوز إبدال الظاهر من ضمير المتكلم بدل كل، ويجوز أن يكون {أَنَاْ} توكيدًا للضمير و{الله} الخبر.
وتعقب أبو حيان إرجاع الضمير للمكلم المنادي بأنه إذا حذف الفاعل وبنى فعله للمفعول لا يجوز عود ضمير على ذلك المحذوف لأنه نقض للغرض من حذفه والعزم على أن لا يكون محدثًا عنه، وفيه أنه لم يقل أحد أنه عائد على الفاعل المحذوف بل على ما دل عليه الكلام ولو سلم فلا امتناع في ذلك إذا كان في جملة أخرى؛ وأيضًا قوله والعزم على أن لا يكون محدثًا عنه غير صحيح لأنه قد يكو محدثًا عنه ويحذف للعلم به وعدم الحاجة إلى ذكره، ثم إن الحمل مفيد من غير رؤية لأنه عليه السلام علمه سبحانه علم اليقين بما وقر في قلبه فكاأنه رآه عز وجل، هذا وفي قوله تعالى: {أَن بُورِكَ مَن في النار} [النمل: 8] الخ أقوال أخر، الأول: أن المراد بمن في النار نور الله تعالى وبمن حولها الملائكة عليهم السلام وروى ذلك عن قتادة والزجاج والثاني: أن المراد بمن في النار الشجرة التي جعلها الله محلًا للكلام وبمن حولها الملائكة عليهم السلام أيضًا ونقل هذا عن الجبائي وفي ما ذكر إطلاق {مِنْ} على غير العالم.
والثالث: ما أخرجه ابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن مردويه عن ابن عباس.
قال في قوله تعالى: {أَن بُورِكَ مَن في النار} يعني تبارك وتعالى نفسه كان نور رب العالمين في الشجرة ومن حولها يعني الملائكة عليهم السلام، واشتهر عنه كون المراد بمن في النار نفسه تعالى وهو مروي أيضًا عن الحسن وابن جبير وغيرهما كما في البحر.
وتعقب ذلك الإمام بأنا نقطع بأن هذه الرواية عن ابن عباس موضوعة مختلقة.
قال أبو حيان: إذا ثبت ذلك عن ابن عباس ومن ذكر أول حذف أي بورك من قدرته وسلطانه في النار، وذهب الشيخ إبراهيم الكوراني في رسالته تنبيه العقول على تنزيه الصوفية عن اعتقاد التجسيم والعينية والاتحاد والحلول إلى صحة الخبر عن الحبر رضي الله تعالى عنه وعدم احتياجه إلى التأويل المذكور فإن الذي دعا المؤولين أو الحاكمين بالوضع إلى التأويل أو الحكم بالوضع ظن دلالته على الحلو المستحيل عليه تعالى وليس كذلك بل ما يدل عليه هو ظهوره سبحانه في النار وتجليه فيها وليس ذلك من الحلو في شيء فإن كون الشيء مجلي لشيء ليس كونه محلًا له فإن الظاهر في المرآة مثلًا خارج عن المرآة بذاته قطعًا بخلاف الحال في محل فإنه حاصل فيه ثم إن تجليه تعالى وظهوره في المظاهر يجامع التنزيه.
ومعنى الآية عنده فلما جاءها نودي أن بورك أي قدس أي نحو ذلك من تجلي وظهر في صورة النار لما اقتضته الحكمة لكونها مطلوبة لموسى عليه السلام ومن حولها من الملائكة أو منهم ومن موسى عليهم السلام، وقوله تعالى: {وسبحان الله} دفع لما يتوهمه التجلي في مظهر النار من التشبيه أي وسبحان الله عن التقيد بالصورة والمكان والجهة وإن ظهر فيها بمقتضى الحكمة لكونه موصوفًا بصفة رب العالمين الواسع القدوس الغني عن العالمين ومن هو هو كذلك لا يتقيد بشيء من صفات المحدثات بل هو جل وعلا باق على إطلاقه حتى عن قيد الإطلاق في حال تجليه وظهوره فيما شاء من المظاهر.
ولهذا ورد في الحديث الصحيح «سبحانك حيث كنت» فأثبت له تعالى التجلي في الحيث ونزهه عن أن يتقيد بذلك {يا موسى} إنه أي المنادي المتجلي في النار {أَنَا الله العزيز} فلا أتقيد بمظهر للعزة الذاتية لكني الحكيم ومقتضى الحكمة الظهور في صورة مطلوبك.
وذكر أن تقدير المضاف كما فعل بعض المفسرين عدول عن الظاهر لظن المحذور فيه.
وقد تبين أن لا محذور فلا حاجة إلى العدول انتهى، وكأني بك تقول: هذا طور ما وراء طور العقول.
ثم إنه لا مانع على أصول الصوفية أن يريدوا بمن حولها الله عز وجل أيضًا إذ ليس في الدار عندهم غيره سبحانه ديار.
ولا بعد في أن تكون الآية عند ابن عباس إن صح عنه ما ذكر من المتشابه والمذاهب فيه معلومة عندك.
والأوفق بالعامة التأويل بأن يقال: المراد أن بورك من ظهر نوره في النار.
ولعل في خبر الحبر السابق ما يشير إليه.
وإضافة النور إليه تعالى لتشريف المضاف وهو نور خاص كان مظهرًا لعظيم قدرته تعالى وعظمته.
وسمعت من بعض أجلة المشايخ يقول: إن هذا النور لم يكن عينًا ولا غيرًا على نحو قول الأشعري في صفاته عز وجل الذاتية وهو أيضًا، منزع صوفي يرجع بالآخرة إلى حديث التجلي والظهور كما لا يخفى فتأمل.
{وَأَلْقِ عَصَاكَ} عطف على {بُورِكَ} [النمل: 8] منتظم معه في سلك تفسير النداء أي نودي أن بورك وأن الق عصاك.
ويدل عليه قوله تعالى: {وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ} بعد قوله سبحانه: {أَن يا موسى إِنّى أَنَا الله} [القصص: 30، 31] بتكرير أن فإن القرآن يفسر بعضه بعضًا وهذا ما اختاره الزمخشري.
وأورد عليه أن تجديد النداء في قوله تعالى: {حَدِيثُ موسى} الخ يأباه.
ورد بأنه ليس بتجديد نداء لأنه من جملة تفسير النداء المذكور، وقيل: لا يأباه لأنه جملة معترضة وفيه بحث، واعترض أيضًا بأن {بُورِكَ} أخبار {وَأَلْقِ} إنشاء ولا يعطف الإنشاء على الاخبار، ومن هنا قيل؛ إن العطف على ذلك بتقدير وقيل له: الق أو العطف على مقدر أي افعل ما آمرك والق، وفيه إنه في مثل هذا يجوز عطف الإنشاء على الأخبار لكون النداء في معنى القول بل أجاز سيبويه جاء زيد ومن عمر بالعطف.